يعد جامع الأزهر أول عمل معماري أقامه الفاطميون في مصر، وأول مسجد أنشئ في مدينة القاهرة التي أسسها جوهر الصقلي لتكون عاصمة للدولة الفاطمية، وقد بدأ جوهر في إنشائه في (24 من جمادى الأولى 359 هـ = 4 من إبريل 970م)، ولما تم بناؤه افتتح للصلاة في (7 من رمضان 361 هـ = 22 من يونيو 971م).
ولم يكن يُعرف منذ إنشائه بالجامع الأزهر، وإنما أطلق عليه اسم جامع القاهرة، وظلت هذه التسمية غالبة عاليه معظم سنوات الحكم الفاطمي، ثم توارى هذا الاسم واستأثر اسم الأزهر بالمسجد فأصبح يعرف بالجامع الأزهر، وظلت هذه التسمية إلى وقتنا الحاضر، وغدا من أشهر المؤسسات الإسلامية على وجه الأرض.
ويردد المؤرخون أسبابا مختلفة لإطلاق اسم الأزهر على جامع الفاطميين الأول في مصر، ولعل أقواها وأقربها إلى الصواب أن لفظة الأزهر مشتقة من الزهراء لقب السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، التي كانت الدولة الفاطمية تنتسب إليها، ومن ثم أطلق على جامع القاهرة اسم الأزهر؛ تيمنًا باسم السيدة فاطمة الزهراء.
بناء جامع الأزهر
وكان تصميم الأزهر وقت إنشائه يتألف من صحن تحفّه ثلاثة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وعلى الجانبين الرواقان الآخران، وكانت مساحته وقت إنشائه تقترب من نصف مسطحه الحالي، ثم ما لبث أن أضيفت مجموعة من الأبنية شملت أروقة جديدة، ومدارس ومحاريب ومآذن، غيرت من معالمه الأولى، وأصبح معرضًا لفن العمارة الإسلامية منذ بداية العصر الفاطمي.
ولعل أول عمارة أدخلت على الأزهر هي التي قام بها الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، حيث زاد في مساحة الأروقة؛ وأقام قبة حافلة بالنقوش الجصّية البارزة لا تزال قائمة حتى اليوم. وفي العصر المملوكي اعتنى السلاطين بالأزهر بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي، وكان الأمير "عز الدين أيدمر" أول من اهتم بالأزهر، فقام بتجديد الأجزاء التي تصدعت منه، ورد ما اغتصبه الأهالي من ساحته، وجمع التبرعات التي تعينه على تجديده، فعاد للأزهر رونقه وبهاؤه ودبت فيه الحياة بعد انقطاع، واحتفل الناس بإقامة صلاة الجمعة فيه في يوم (18 من ربيع الأول سنة 665 هـ = 19 من نوفمبر 1266م).
ثم قام الأمير "علاء الدين طيبرس" نقيب الجيوش في عهد الناصر محمد قلاوون بإنشاء المدرسة الطيبرسية سنة (709 هـ = 1309م)، وألحقها بالجامع الأزهر، وقرر بها دروسًا للعلم، وقد عني هذا الأمير بمدرسته فجاءت غاية في الروعة والإبداع المعماري.
ولم تكد تمضي ثلاثون سنة على هذه العمارة حتى أنشأ الأمير علاء الدين آقبغا سنة (740 هـ = 1340م) –وهو من أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون – المدرسة الأقبغاوية، وهي على يسار الداخل من باب المزينين، وأنفق عليها أموالا طائلة حتى جاءت آية في الجمال والإبداع، وبخاصة محرابها البديع، وجعل لها منارة رشيقة.
ثم أنشأ الأمير جوهر القنقبائي خازندار السلطان الأشرف برسباي مدرسة ثالثة عُرفت باسم المدرسة الجوهرية، وتقع في الطرف الشرقي من المسجد، وتشتمل على أربعة إيوانات على الرغم من صغر مساحتها، أكبرها الإيوان الشرقي، وبه محراب دقيق الصنع، وتعلو المدرسة قبة جميلة.
ولم تتوقف العمارة في الجامع الأزهر في عهد المماليك الجراكسة، حيث قامالسلطان قايتباي المحمودي سنة (873 هـ = 1468م) بهدم الباب الواقع في الجهة الشمالية الغربية للجامع، وشيده من جديد على ما هو عليه الآن، وأقام على يمينه مئذنة رشيقة من أجمل مآذن القاهرة، ثم قام السلطان قانصوه الغوري ببناء المئذنة ذات الرأسين، وهي أعلى مآذن الأزهر، وهي طراز فريد من المآذن يندر وجوده في العالم الإسلامي.
غير أن أكبر عمارة أجريت للجامع الأزهر هي ما قام بها "عبد الرحمن بن كتخدا" سنة (1167 هـ = 1753م) وكان مولعًا بالبناء والتشييد، فأضاف إلى رواق القبلة مقصورة جديدة للصلاة يفصل بينها وبين المقصورة الأصلية دعائم من الحجر، وترتفع عنها ثلاث درجات، وبها ثلاثة محاريب، وأنشأ من الناحية الشمالية الغربية المطلة حاليًا على ميدان الأزهر بابًا كبيرًا، يتكون من بابين متجاورين، عُرف باسم باب المزينين، كما استحدث باباً جديدًا يسمى باب الصعايدة وأنشأ بجواره مئذنة لا تزال قائمة حتى الآن، ويؤدي هذا الباب إلى رواق الصعايدة أشهر أروقة الأزهر.
وفي عهد أسرة محمد علي عني الخديوي عباس حلمي الثاني بالأزهر، فجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ لها بابًا من الخارج، وأضاف إلى أروقة الأزهر رواقًا جديدًا هو الرواق العباسي نسبة إليه، وهو أحدث الأروقة وأكبرها، وافتتح في (شوال 1315 هـ = يناير 1897م).
وقد أدخلت الآن تجديدات على الأزهر وتحسينات على عمارته بعد حادث الزلزال الذي أصاب الجامع بأضرار بالغة في سنة (1413 هـ = 1992م).
الأزهر جامعة
قام الأزهر بوظيفته التعليمية عقب الانتهاء من بنائه بسنوات قليلة. فشهد في (صفر 365 هـ = أكتوبر 975م) أول درس علمي، حين جلس قاضي القضاة "أبو الحسن علي بن النعمان" وقرأ في وسط حشد من الناس مختصر أبيه في فقه آل البيت، فكانت هذه أول حلقة علمية بالجامع الأزهر، ثم قام الوزير "يعقوب بن كلس" الفاطمي بتعيين جماعة من الفقهاء للتدريس بالأزهر، وجعل لهم رواتب مجزية، وأنشأ لهم دورًا للسكنى بالقرب من المسجد، وبهذا اكتسب الأزهر لأول مرة صفته العلمية باعتباره معهدًا للدراسة المنظمة.
غير أن الأزهر شهد انتكاسة في العصر الأيوبي، وفقد بريقه الذي لازمه في عهد الفاطميين، وكان الأيوبيون يعملون على إلغاء المذهب الشيعي، وتقوية المذهب السني بإنشاء مدارس لتدريس الحديث والفقه، فاجتذبت الشيوخ والأساتذة وطلاب العلم، في الوقت الذي قل الإقبال فيه على الأزهر، وأصيبت الحركة العلمية فيه بالشلل، فانزوى بعد أن أهمله الأيوبيون القائمون على الحكم، غير أن هذا العلة التي أصابته لم تدم كثيرًا، فاسترد الأزهر عافيته في العصر المملوكي، واستعاد مكانته السامقة باعتباره معهدًا علميًا راقيًا، وأصبحت تدرس فيه المذاهب السنية، وانقطعت صلته بما كان يدرس فيه من قبل.
ولقي الأزهر عناية فائقة من سلاطين المماليك منذ عهد الظاهر بيبرس، وتوالت عليه عمليات التجديد، وإلحاق المدارس به، وظل الجامع الأزهر في العهد العثماني (923-1213هـ = 1517-1789م) موضع عناية الخلفاء وولاتهم في مصر، فجُدّد في بنائه، ووسعت مساحته، وأضيفت إليه مبان جديدة، وشهد إقبالا على الالتحاق به، فازدحم بالعلماء والدارسين، وبحلقات العلم التي لم تقتصر على العلوم الشرعية واللغوية، بل شملت أيضا علم الهيئة والفلك والرياضيات من حساب وجبر وهندسة.