كان اليوم الأول من كانون أول موعد الأردنيين مع خطاب العرش السَّاميّ، في افتتاح الدورة العاديّة الثالثة لمجلس الأُمّة الرابع عشر. كان صباحاً عمَّانيَّاً باسماً، رفدته جموع الأردنيَّات والأردنيّين القادمين من القرى والبوادي والمدن فزادته روعة وبهاءً، جاءوا من كل حدب وصوب ومن السهل والجبل حاملين في قلوبهم أشواقاً أبديّة لعاصمتهم الغالية ولقائدهم الأغلى، زوَّادتهم الحب وعشقهم الصحراويّ، والزيت والزيتون والزعتر، وفي أيديهم قناديل وسيوف ورماح، وقصائد حب بدويّة.
كان يوماً أردنيَّاً مشهوداً، عندما غصَّت شرفات بيت الأُمَّة لمجلس الأُّمّة بالنّشامى أبناء وبنات هذا الوطن. كان المنظر تعبيراً وطنيّاً لتجلِّيات هذا الشعب الواحد الموحَّد المتَّحد. كان مجلس الأُمَّة والشَّعب في حضرة الملك تحت القبَّة. كان الوطن الغالي حاضراً في هذا المشهد المجسِّد للوحدة، الجامع لأبناء الشَّعب؛ ليبدأ الجميع المشوار، وتتواصل المسيرة، ويعلو البناء، وتدور عجلة التقدُّم والإعمار.
وتحوَّل الهدوء المهيب إلى حماس وهتافات وتصفيق حادّ، عندما أطلَّ جلالة الملك عبدالله الثاني بطلعته البهيّة، فاعتلى منصَّة العرش، وبدأ خطاب العرش.. بسم الله الرحمن الرحيم.. والصَّلاة والسَّلام على النَّبيّ العربيّ الهاشميّ الأمين.. حضرات الأعيان.. حضرات النوَّاب... . كان الخطاب جليَّاً ومباشراً في الأفكار والمفردات والنُّصوص محيطاً بالأُمور ومحدّداً للأولويّات.
وفي القراءة المتأنِّية العميقة لخطاب العرش السَّاميّ تتشكَّل أمام القارئ خمسة محاور أو مرتكزات أساسيّة، هي في المحصِّلة جوهر الخطاب وهي ثوابت المرحلة وأولوياتها. المحور الأول الأمن والاستقرار؛ وهما الأولويّة الأولى في أولوياتنا الوطنيّة، وهما الشرط الأول والركيزة الأساسيّة للتنمية، فلا تنمية بلا استقرار، ولا استقرار ولا أمن دائمين بدون تنمية. وهكذا فقد تصدَّى النشامى والنشميّات من أبناء وبنات القوّات المسلَّحة والأمن العام والمخابرات العامّة والدِّفاع المدنيّ والشَّعب الأردنيّ للحاقدين والإرهابيين عندما امتّدت أيديهم للعبث بأمن الأردن والمساس بسيادته. وهذا في مجمله وبسبب ما حدث وما تفرضه التحدِّيات الأمنيّة، يستدعي وضع إستراتيجيّة أمنيّة شاملة قادرة على التعامل مع المستجدّات والتحدِّيات، وهذا استحقاق وطنيّ تفرضه المرحلة القادمة.
أمّا المحور الثاني، فقد أكَّد على المشاركة الشعبيّة في صنع القرارات، وفي وضع الخطط والبرامج المتعلِّقة بالمسيرة التنمويّة. وهذا يتحقّق عن طريق تقسيم المملكة إلى عددٍ من الأقاليم، وانتخاب عددٍ من المجالس لتكون مسؤولة عن الخطط وبرامج التنمية في الإقليم. أمّا البُعد الثاني لهذا المحور، فهو الأجندة الوطنيّة التي تشكِّل الإطار العام للبرامج والأهداف التنمويّة ومرجعيّة لمسيرة الإصلاح والتحديث. وهكذا فإنَّ الخطاب السَّاميّ أدرج موضوعي إعادة تقسيم الأقاليم، والأجندة الوطنيّة على جدول أعمال الحكومة والسلطة التشريعيّة. ولم تكن هناك حاجة للغوص في التفاصيل من حيث أهمية إصدار قوانين الانتخاب والبلديات والأحزاب السياسيّة، فهي مسؤوليّة الحكومة ومجلس الأمة، وهي من متضمّنات الأجندة الوطنيّة للسنوات العشر القادمة.
والمحور الثالث للخطاب السَّاميّ، ينصبُّ على حجم الصعوبات الاقتصاديّة وفي مقدّمتها الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، وهي مصدر قلق للقائد وهمّ وطنيّ دائم. والفكرة الملكيّة تستحضر دور المؤسسات الأهليّة المحقِّقة للتكافل الاجتماعيّ لمعالجة الفقر والبطالة وحتميّة إيجاد مرجعيّة واحدة تكون مظلّة للتكافل الاجتماعيّ ضمن خطة واضحة وفي إطار مؤسسيّ قابل للمساءلة والتقييم لضمان عدم هدر الموارد والجهود. وإذا كان جلالته موجزاً في هذا الباب، إلاّ أنّه يعلم علم اليقين بأنّ الفقر والبطالة صنوان وهما من الهموم الملكيّة التي أشار إليها في مناسبات عديدة وفي لقاءات وحوارات كثيرة.
ولعلَّ المحور الرابع هو الأمر القديم الجديد، والمتمثِّل في طبيعة العلاقة ومستواها بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة. ولا حاجة إلى الإشارة أو التذكير بخلفيّة هذه العلاقات وما سبِّبته من إشكالات للطرفين، وفي المحصلة لمسيرة الإنجاز عندما تعرَّضت هذه العلاقة إلى حالة من النفور والاستنفار والعبثية أحياناً، حيث ألقت بظلالها على الأداء العام. وهو ما دعا صاحب الولاية إلى التدخُّل لإعادة بوصلة المسيرة إلى طريقها الصحيح. واليوم، يؤكِّد خطاب جلالة الملك على أهميّة أن يكون الجميع على مستوى المرحلة، وأن يكون مجلس الأمة على مستوى المسؤوليّة في التعاون مع الحكومة والتواصل مع النَّاس. ولعلَّ هذه الإشارة المباشرة هي الفرصة الأخيرة لمجلس النوَّاب، والتحذير من فتح ملفَّات شخصيّة لا علاقة للوطن بها، إذا ما استذكرنا أحداث الماضي القريب عندما أصبحت الشخصنة واغتيال الشخصيّة والمصالح الشخصيّة تحكم جزءاً من العلاقة بين السلطتين وتؤجِّج بل تقود إلى توتُّر هذه العلاقة.
وفي المحور الأخير، يؤكِّد خطاب العرش على موقف الأردن الثابت في الوفاء للأمة العربيّة والدِّفاع عن قضاياها العادلة، وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينيّة، والوقوف إلى جانب الأشقَّاء الفلسطينيّين بكل الوسائل، لإقامة دولتهم المستقلِّة على ترابهم الوطنيّ، والاستمرار في تعزيز العلاقات المتميّزة مع الدول الشقيقة والصديقة.
لم يكن خطاب العرش نمطيَّاً، بل كان متجدِّداً في مضامينه وموجزاً في التعبير عن القضايا الأساسيّة، ومعبِّراً عن أفكار جلالة الملك عبدالله الثاني وهاجسه وشعوره بمعاناة أبناء شعبه. وقد قام جلالته بإطلاق مبادرات للتخفيف من هذه المعاناة بتوزيع الأراضي، وإقامة المساكن للفقراء، ودعم صغار الموظفين والجند في قوَّاتنا المسلَّحة والأمنيّة، وتوسيع مظلِّة التأمين الصحيّ، وشمول الفقراء والأطفال بالرِّعاية الصحيّة، وما زال المشوار في بدايته، والمسيرة ماضية بعزمٍ وإرادة، صامدين بعون الله أمام كل التحدِّيات.